تمنيت أن تقبل استقالة وزير الثقافة في مصر، في أعقاب محرقة الفنانين في بني سويف، ليس فقط لاعلاء شأن قيمة المسؤولية الأدبية، ولكن أيضاً لكي تصبح مدخلاً لاحياء مختلف فضائل وتقاليد العمل العام، التي تآكل بعضها وانقرض أكثرها، في ثنايا الانقلاب الكبير الذي زلزل منظومة القيم في مصر خلال العقود الأخيرة.
(1)سمعت بخبر الاستقالة لأول مرة بينما كنت مشاركاً في مؤتمر انعقد في مدينة “قازان”، عاصمة جمهورية تترستان الواقعة في شرق روسيا، اذ جاءني واحد من شباب التتر الذين درسوا في مصر، وسألني عن صحة الخبر الذي تناقلته وسائل الاعلام حول الموضوع. كنت قد غادرت القاهرة وأصداء الاحتجاج والغضب تتردد في أوساط المثقفين بسبب ما جرى في بني سويف.
لكني أصبحت شبه معزول عن أخبار العالم منذ وصلت الى قازان، بسبب عدم معرفتي بالروسية. ولست اخفي أنني فوجئت بما سمعته وطربت له. ليس شماتة في وزير الثقافة ولكن لأنني وجدت أخيراً وزيراً اضطر للاستقالة بسبب ضغط الرأي العام عليه. وذلك حدث فريد في بابه لا ريب. بعدما تحققت من صحة الخبر من خلال الاتصالات الهاتفية، صارت القصة حديث كل العرب المشاركين في المؤتمر، الذين اعتبروه تطوراً مثيراً لم يكن يخطر على البال.ولأنني كنت المصري الوحيد في المؤتمر، فقد أضفى علي الخبر بعض الأهمية مؤقتاً بطبيعة الحال حيث قصدني اكثر من واحد طالبين مني تحليله والتعليق عليه. انتابني في تلك اللحظة شعور بالزهو، فأفتيت على البعد بما يلي: هذا الذي حدث في مصر ليس منفصلاً عن الأجواء التي شهدتها البلاد خلال الأشهر الماضية، خصوصاً حملة الانتخابات الرئاسية، التي ارتفع خلالها سقف التعبير وعلا صوت المجتمع، وسقط بالتالي حاجز الخوف والحذر في مخاطبة السلطة. وهو ما احدث حراكاً في المجتمع تجلى في موقف القضاة وفي ظهور عدة تجمعات خارج الأطر والخرائط التقليدية مثل حركة “كفاية”، وغيرها من الكيانات التي رفعت شعار “من اجل التغيير”. الأمر الذي فرض حقيقة ظلت مغيبة طويلاً في الأفق السياسي المصري تمثلت في ظهور طرف اسمه “الرأي العام”.
واذ تبلورت تلك الفكرة بصورة نسبية، فإن شرعية المسؤول لم تعد تستمد فقط من رضى المقامات العليا في السلطة، وانما اصبح رضى الرأي العام عنصراً مستجداً لا يمكن تجاهله. ولذلك فإن وزير الثقافة حين تعرض لحملة الانتقاد الواسعة التي قادها نفر من المثقفين والفنانين، فإنه ما كان له أن يستمر في موقعه غير مبال بها، وانما كان مضطراً لتقديم الاستقالة من منصبه، ولم يكن أمامه خيار آخر.حين عدت الى القاهرة، وتابعت تطورات المشهد فإنني لم اعد واثقاً من أن ذلك التحليل كان يمثل قراءة أمينة للواقع أم انه كان تعبيراً عن التمني. وفي كل الأحوال فإنني أستطيع أن ادعي أن شعوري بالزهو لم يعد كما كان عليه في جلسة فندق قازان.
(2)لقد أثار الحدث جدلاً لم يتوقف بين المثقفين حول ما يراه البعض انجازات لوزير الثقافة، وما يراه آخرون اخفاقات له، ولست طرفاً في هذا الجدل، وان كنت ازعم أن بقاء مسؤول عن مرفق مهم مثل الثقافة في موقعه طيلة 18 عاماً يوفر له فرصة واسعة لتحقيق الانجازات بقدر ما يفتح الباب لامكانية حدوث الاخفاقات. ولست معنياً في هذا المقام بالموازنة بين الكفتين، فضلاً عن اقتناعي بأنني لست الشخص المناسب للنهوض بهذه المهمة، التي أحدثت انقساماً مشهوداً بين المثقفين المصريين، انما الذي يعنيني في المشهد هو ما أشرت اليه في البداية متعلقاً باستعادة قيمة المسؤولية السياسية والأدبية في اطار رد الاعتبار للتقاليد المعتبرة في العمل العام. وما يشجعني على الالحاح على هذه الفكرة أن ثمة تطوراً مهماً في المجتمع المصري لا بد من رصده والانتباه اليه، يتمثل في مؤشرات الصحوة التي انتابته، والتي اصبح الشوق الى الاصلاح حجر الأساس فيها وموضع الاجماع بين شرائحه وتياراته المختلفة.لقد كانت محرقة بني سويف التي راح ضحيتها 43 من الفنانين والمثقفين فرصة لتوجيه رسالة الى المجتمع تخبره بأن قصوراً جسيماً من ذلك القبيل لن يمر دون حساب عسير لكل المسؤولين، الكبار منهم قبل الصغار. ولئن امتلك وزير الثقافة شجاعة تقديم الاستقالة أمام تصاعد موجة الاحتجاج والغضب، فإن قبول الاستقالة كان يمكن أن يوجه تلك الرسالة.
صحيح أن اقالة المسؤول عن قصور الثقافة تمثل الحد الأدنى للحساب في هذا الموقف. الا أن وقع الرسالة كان يمكن أن يصبح أقوى بكثير لو أن الحد الأقصى هو الذي طرح، وقبلت استقالة الوزير. لذلك ازعم أن الرسالة لم تصل. بالتالي فإن التحرك المتواضع الذي تم لم يمثل خطوة الى الأمام، وانما غدا مجرد مراوحة في ذات المكان!
(3)ربما كنت قد أفرطت في التفاؤل حين أفتيت بما قلت في قازان. ولكني لست وحدي المسؤول عن ذلك، لأن الخطاب الذي ساد في مصر عقب تعديل المادة 76 من الدستور التي سمحت بمنافسة رئيس الجمهورية في انتخابات الرئاسة، حرص على أن يشيع في الأجواء جرعة من التفاؤل، لم تخل بدورها من الافراط. واذا كانت تلك الأجواء قد فتحت شهية كثيرين أنا أحدهم- الى الالحاح على متطلبات الشفافية والاصلاح السياسي، فينبغي ألا يؤاخذوا اذا كانت جريرتهم انهم اخذوا الكلام على محمل الجد، ودعوا أركان السلطة الى أن يلزموا أنفسهم بما يقولون. من مقتضيات الجد ألا يكون المسؤول فوق الحساب، سواء تعلق الأمر بممارساته الشخصية أو تعلق بأوجه القصور المختلفة في نطاق اختصاصه. ومن أسف أننا لم نصادف نموذجاً لا للحساب على الأولى أو الثانية. ومن يقرأ الصحف المستقلة أو المعارضة في مصر يجد رصيداً هائلاً من اللغط المثار حول عدد من الوزراء، تواتر الحديث فيه الى الحد الذي حول الادعاءات أو الشائعات الى مسلمات يتداولها الناس باعتبارها حقائق. واذا كان هذا الكلام قد قوبل بالتجاهل وعدم الاكتراث فيما سبق، فإن الأمر لا بد أن يختلف الآن، في ظل المؤشرات الايجابية الدالة على اختلاف ظروف المناخ السياسي والحراك الاجتماعي.ولا يغيبن عن البال أن اعفاء المسؤولين الكبار من الحساب، يقدم رخصة ضمنية لمختلف صور التسيب والتفلت الشائعة في أوساط الادارة الحكومية. وما الاهمال الجسيم الذي تبدى في محرقة بني سويف الا نموذج لما نتحدث عنه. وليس سراً أن الاهمال الذي أدى الى المحرقة ليس مقصوراً على قصور الثقافة وحدها، وانما هو سمة عامة للأداء في الادارة الحكومية بوجه عام، ومرافق الخدمات بوجه أخص. وكل ما حدث أن حريقاً شب هناك في بني سويف وأهلك العشرات من الفنانين والمثقفين، فلفت الانتباه، في حين أن الاهمال في المرافق الأخرى يمثل عذاباً مستمراً لآلاف البشر المجهولين، الذين لا يجدون من يدافع عنهم وضحايا حوادث الطرق وانقلاب الجرارات الزراعية في مصارف المياه من نماذج تلك الشريحة البائسة.
(4)ليس هناك قانون مكتوب يلزم المسؤول عن الوزارة أو المرافق بالاستقالة اذا ما وقع خطأ جسيم في الجهة التي نصب عليها، ولكن الأمر محكوم بالتقاليد والثقافة السائدة، وبمدى الحساسية ازاء المسؤولية أو احترام الرأي العام. وتلك المسؤولية الأدبية عن الخطأ من القيم المتعارف عليها في الدول المتحضرة عموماً، وفي الثقافة الآسيوية بوجه خاص. فوزير الطيران استقال في اليابان لان طائرتين تجاريتين اصطدمتا في الجو، ومدير فرع لأحد البنوك استقال من وظيفته لان أحد موظفيه اختلس مبلغاً متواضعاً من رصيد أحد العملاء. والقصص المتداولة في هذا السياق بلا حصر.في مصر عرفنا استقالتين من وزارة الخارجية لوزيرين هما اسماعيل فهمي ومحمد ابراهيم كامل، احتجاجاً على زيارة الرئيس السادات للقدس عام 77 وعلى معاهدة كامب ديفيد عام 78. وعرفنا اقالتين احداهما لوزير الداخلية حسن الألفي بعد مذبحة الارهاب في الأقصر (عام 97) والثانية لوزير النقل الدكتور ابراهيم الدميري بعد احتراق قطار الصعيد عام 2002. لكننا لم نعرف استقالة اقدم عليها وزير أو أي مسؤول لشأن أصاب المجتمع ومثل عدواناً على بسطاء الناس. لا حين تسربت الأغذية المسرطنة الى الأسواق، ولا حين توالى انهيار بعض العمارات في الاسكندرية، ولا حين شاع الفساد واستشرى في المحليات، ولا حين توقفت المدارس عن أداء وظيفتها في التعليم، واصبح التلاميذ يصلون الى الاعدادية في حين لا يجيدون القراءة والكتابة!ليست قيمة الاستقالة من جراء المسؤولية الأدبية وحدها المهدرة بين قيم العمل العام، وانما هناك قيم أخرى أهدرت بدورها، وأصبحت مدخلاً للعديد من الشرور وصور الفساد. فتربح المسؤول من موقعه الوظيفي عن طريق الاستثمار والاتجار بالطرق المباشرة وغير المباشرة أمر بات ظاهرة مثيرة للانتباه، حتى اصبح شغل الموقع المتقدم في الحكومة والقطاع العام بالنسبة للبعض باباً للقفز السريع من طبقة الى أخرى أعلى بمراحل، على نحو لا يحتمل البراءة في التفسير. يتصل بذلك انتفاع أقارب الدرجة الأولى (الأبناء ومن لف لفهم)، من الموقع الوظيفي للمسؤول، الأمر الذي يخلق نوعاً من تعارض المصالح المخالف للقانون. وقد تحدثت الصحف مؤخراً عن نماذج صارخة في هذا الصدد سكت عليها الجميع. ثم هناك التقاليد الضابطة للهدايا التي يقدمها أصحاب المصالح للمسؤول، أهدرت جميعها في حدود علمي، حتى لم تعد هناك حدود تحكم هذه المساحة، وهو ما استصحب اطلاق سيل من الشائعات التي أصابت كثيرين، وأساءت الى صورة السلطة أيما اساءة.لا أريد أن استرسل في ضرب النماذج أو الخوض في التفاصيل. ولكن فقط انبه الى أن اهدار مثل هذه القيم اصبح مثار لغط كبير في مصر، من شأنه أن يجهض أي أمل في الاصلاح المنشود، ومن ثم لا يدع مجالاً للتفاؤل بالمستقبل. اذ من حق كل أحد أن يتشكك في كل ما يقال، ما دام الكلام يمضي في اتجاه، بينما يمضي الواقع في اتجاه معاكس.
(5)اذا وسعنا قليلاً من زاوية الرؤية فسوف نكتشف أن ما أصاب قيم العمل العام من تآكل أو انقراض أوسع بكثير مما نظن، وان الداء انتشر في العديد من المجالات حتى ضرب منظومة القيم الايجابية السائدة في المجتمع بشكل عام، فضلاً عن التقاليد والقيم المتعارف عليها في مختلف المهن. ولأساتذة علم الاجتماع في مصر كلام كثير عن تراجع قيم الكد والاجتهاد والاتقان والقناعة والتفوق والاحتشام، لمصلحة تقدم منظومة القيم المعاكسة، من الفهلوة الى الخطف والجشع والاستهلاك والتفلت.لا يتسع المجال للحديث عن تآكل القيم وانقراضها في مختلف المهن، لكني سأضرب مثلاً بالحاصل في مجالي الصحافة والتعليم العالي، فالهرج واختلاط المعايير اصبحا ظاهرة عامة في مهنة الصحافة، حيث انهارت الحدود بين المحرر ومندوب الاعلانات، وبين المخبر والكاتب، وبين الخبر والرأي، وأحياناً بين الرأي الرسمي وبين موقف الصحيفة القومية. وباتت اغلب مفردات المهنة تحتاج الى تعريف جديد، بعدما لم تعد هناك مواصفات توضح طبيعة وحدود المحرر، ولا شرائط يفترض توافرها في الكاتب. حتى بات أمثالنا من “اصوليي” المهنة في حرج شديد مما آل اليه حالها في مصر، وصرت من جانبي لا أمل من تكرار السؤال الذي سمعته ذات مرة من الأستاذ احمد بهاء الدين حين استبد به الاحباط وظل يردد: هل الكتابة أصبحت قيمة أم أنها علامة على قلة القيمة؟الحاصل في مجال التعليم العالي لا يصدقه عقل. لان الانهيارات في منظومة القيم العامة ألقت بظلالها الكئيبة على ذلك المرفق الخطير. ومن يقرأ صفحة الجامعات التي ينشرها “الأهرام” اسبوعياً يلاحظ كارثتين من العيار الثقيل، احداهما التراجع الشديد في سلوكيات أعضاء هيئات التدريس، الذي يتجلى في شيوع السرقات العلمية، وبيع الامتحانات والتلاعب في أوراق التصحيح. والثانية التهاون المذهل الذي تبديه الادارة الجامعية مع “الكبائر” التي يرتكبها أعضاء هيئات التدريس، حيث يكتفى بنقل بعضهم من مكان الى آخر أو وقف ترقيته، في حالات السرقة أو الغش أو التلاعب. أما أم الكوارث في هذا القطاع فهي الجامعات الخاصة، التي هيمن عليها الجشع، وتعاملت مع التعليم العالي باعتباره تجارة مربحة، قال لي أحد الخبراء إن عائدها بات يفوق بكثير تجارة الأفيون أو السلاح حيث الفساد الذي تسرب الى الجامعات الحكومية اصبح مضروباً في عشرة في الجامعات الخاصة. ومؤخراً قال لي أحد الأساتذة انه ضبط طالباً يغش في احدى لجان الامتحانات، فطرده من اللجنة وقرر حرمانه من دخول بقية الامتحانات، ولكنه أعيد الى مكانه في اليوم التالي، وقال مسؤول الجامعة للأستاذ إن المصروفات التي يدفعها هذا الطالب هي التي توفر لك راتبك.ما أستغرب له وفوجئت به، أنني لقيت ذات مرة نفراً من الأساتذة الذين هالهم “تسونامي” الفساد في الجامعات، وسمعت أحدهم يقول وهو يضرب كفاً بكف: لقد كنا نحلم بالتدريس في الجامعة يوماً ما، لكن الواحد منا لم يعد يعلم ما اذا كان ذلك صار الآن مصدراً للقيمة، أم علامة على المهزأة وقلة القيمة؟!لأن العبء أثقل مما نظن، فينبغي أن نتعامل معه بأقصى درجات الجدية وبكل ما نملك من عزم.